عاد عشرات الآلاف من الأشخاص الذين فرّوا من مدينة بعلبك إلى مطاعم مدمّرة، ومبانٍ سكنية منهارة، في حين لا تزال جثث كثيرة مدفونة تحت الأنقاض.
كان صوت المطارق يتردّد عبر أرجاء المدينة، حيث شرع سكان بعلبك في إصلاح منازلهم، عازمين على إعادة بناء حياتهم من جديد.
في اليوم التالي لوقف إطلاق النار الذي أنهى أعنف حرب شهدها لبنان منذ عقود، كان عشرات الآلاف ممّن فرّوا من العنف قد عادوا بالفعل يوم الخميس إلى المدينة الواقعة في شرق البلاد، التي تعرّضت إلى ضربات قاسية.
التقطت الفتيات المراهقات صور «سيلفي» أمام المعابد الرومانية القديمة، فيما أدّى شبان متحمّسون على دراجاتهم النارية حركات استعراضية في الشوارع، وأثاروا الغبار وفتات الزجاج المتناثر أثناء ذلك.
لكن بعد أسابيع من القصف الجوي الإسرائيلي المكثّف، لم يكن من السهل تجاهل الآثار: مطاعم مدمّرة، ومبانٍ سكنية مسطحة، وأشجار مكسّرة كأنّها أعواد صغيرة. ولا تزال جثث كثيرة مدفونة تحت الأنقاض، وفقاً للسكان.
بحزن شديد، أشارت تفلة عمار، وهي سيدة تبلغ من العمر 79 عاماً، بينما كانت تكنس الحطام من أمام منزلها، وهو من المنازل القليلة التي بقيت صامدة في شارعها: «أنا امرأة عجوز، لا أنتمي إلى أي جهة. ماذا فعلت لأستحق هذا؟ أبكي طوال اليوم».
بالنسبة إلى أكثر من مليون شخص شُرّدوا في لبنان بسبب الهجوم الإسرائيلي، كان الأمر أشبه بعودة مريرة. ففي بعلبك، المدينة الفقيرة التي يُسيطر عليها «حزب الله»، عاد الكثيرون ليجدوا أحياءهم بالكاد يمكن التعرّف عليها.
لمدة عام تقريباً، كانت المدينة في الغالب بمنأى عن الحرب بين إسرائيل و»حزب الله»، إذ كان القتال يتركّز في جنوب لبنان. ثم شنّت إسرائيل هجومها في أيلول، وأمرت بإخلاء أجزاء واسعة من المدينة، وأمطرتها بالصواريخ.
تساءلت بسمة ياغي، التي عادت من بيروت لتجد مطعمها الشهير في الحي وقد تحوّل إلى ركام: «لماذا استهدفوا المطعم؟».
كانت تُقلّب صوَراً على هاتفها التقطتها خلال الصيف: حفلات زفاف؛ عائلات تستمتع بالغداء تحت الأشجار الظليلة في الفناء؛ أطفال صغار يلهون في منطقة اللعب داخل المطعم. الآن، أصبحت كل تلك الذكريات بعيدة، ولم يتبق سوى قضبان حديدية ملتوية حيث كان يقع المطعم، وأشارت ياغي إلى: «لا أستطيع أن أفهم أي شيء».
أمّا القلة الصامدة التي بقِيَت في المدينة، ففوجئ كثير منهم بشدة حملة القصف الإسرائيلية التي استمرّت لأسابيع. وعلى رغم من أنّ البعض شكّك في إمكانية استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، إلّا أنّهم كانوا ممتنّين فقط لأنّ الغارات الجوية قد توقفت.
وأوضحت هند صيدح، وهي تجلس في غرفة معيشتها التي ما زالت مغطاة بالغبار على رغم من جهودها لتنظيفها: «لم يكن لدينا أي فكرة أنّهم سيضربون بهذا العنف». وأضافت، مستشهدةً بمقولة شائعة في بعلبك: «عندما تغادر منزلك، تترك قيمتك وراءك».
ورث شقيقها، حسن صيدح، المنزل البالغ من العمر 150 عاماً عن والده، الذي ورثه بدوره عن أجداده. لم يكن هناك أي سبيل لتركه، كما قال، حتى عندما دمّرت الغارات الجوية حيّه وقتلت دجاجاته. كان العمال يتجوّلون من حَوله لتقييم الأضرار، التي بلغت 15 ألف دولار، بحسب تقديره، فردّ قائلاً: «ليس لديّ أي شيء من هذا المبلغ».
أمّا زوجة أخيه، سامية بعلبكي، التي تحمل اسم المدينة التي قضت فيها حياتها، فلم تكن بالقدر عينه من الشجاعة، إذ فرّت لأول مرة في حياتها. الآن، بعد أن عادت إلى منزلها، كانت تكافح لإيجاد معنى للحرب والدمار الذي لحق بهذه الدولة الصغيرة المطلّة على البحر الأبيض المتوسط.
لا تزال صور قادة «حزب الله» الذين قُتلوا معلّقة على جدران المدينة، حيث وُلد العديد من كبار المسؤولين في الجماعة ولا يزال الدعم لهم قوياً. حسن نصر الله، هاشم صفي الدين، فؤاد شكر- جميعهم قُتلوا في الأسابيع الأخيرة خلال الهجوم الإسرائيلي.
واعتبرت سامية أنّ «أحداً لم يفز. منازلنا مدمّرة. قائدنا رحل». وتحذّر لوحات إعلانية أخرى في المدينة السكان من خطر الصواريخ غير المنفجرة، التي لا يزال الجيش اللبناني يفجّر بعضها. كانت هذه الخلفية الكئيبة حاضرة مع عودة الحياة إلى شوارع المدينة، حيث عادت الأسواق تعجّ بالمتسوّقين.
بالنسبة إلى مهدي زين الدين، وهو سائق حافلة يبلغ من العمر 36 عاماً، كان كل ما يفكّر فيه هو أنّ أطفاله سيعودون إلى المنزل خلال ساعة. كان قد أرسلهم إلى سوريا عند بدء الحرب، لكنّه يأمل الآن أن يسمح وقف إطلاق النار لهم بالعيش في سلام مرّة أخرى.
وأشار، بابتسامة وهو يحمل أكياس تسوّق مليئة بالموز، الفاكهة المفضّلة لأطفاله إلى «إنّنا سنشوي بعض الدجاج».